قبل العشرين من عمره شهد النكبة فأحدثت في قلبه جرحاً نازفاً وألماً طالما استعاده في سني عمره ومراحل حياته المتقدمة، انطلق للدراسة الجامعية ليعوض جزء من الإحساس بالفقد والحزن فكانت كلية الهندسة حاضنة لفكر متقد، لثوري لا يهدأ، كثير النشاط غير قليل الحركة. لقد أحدثت نكبة 1948 تطورا في شخصيته فجعلت من الرجل الذي فكر لبرهة أن يهاجر للولايات المتحدة الأمريكية- كما تذكر بعض المصادر- جعلت منه يسخّر قدرته غير المحددة على الحركة الدؤوبة في صالح قضية لبسها في عنقه أعواماً فاقت الخمسين.
لا يستطيعون إدارة الظهر له
عندما يصفه معاصروه أو أترابه لا يستطيعون أن يدروا ظهرهم له، ولا يستطيعون إلا أن ينصتوا له، وينبهرون بقدرته الفائقة على الحركة والتنقل والفعل ، وينبهرون بشخصيته القيادية الجاذبة، واستقلاليته حتى كان التنظيم الذي ساهم في تأسيسه لا يشكل حزباً أو جبهة أو تجمعاً بل حركة تتماشى مع ما وصف به، فهو حركة والتنظيم الذي أنطقه وأخرجه من الظلمات إلى النور أصبح حركة مشمسة تلقى بأشعتها على الشعب اللاجئ، وعلى الحركة الثورة العربية وعلى الثورة العالمية.
قبل أن يصل الثلاثين من العمر كان قد برز قائداً مهاباً، يحسب له كل حساب فلم تكن تجربته في حرب القنال كمقاتل و كضابط إلا ادخار في محصلة قدراته القابلة للتطور، ولم تكن تجربته السياسية النقابية في جامعة القاهرة إلا "بروفة" لقيادة أعمق وأشمل واكبر سرعان ما يصلها قبل الأربعين من عمره. لقد صنع التشرد من ياسر عرفات شخصية صلبة لا تعرف التراجع أو التردد بل تصنع الحدث، وتقبل التحدي. يضع الولولة والدموع والبكاء والندب خلف ظهره ويرسم البسمة والأمل والطموح مقترناً بآليات النضال، والفعل المتراكم في نطاق السير على الشوك وبين الألغام وبشكل متعرج ما دام الهدف واضحاً، والوصول إليه لا يتم إلا في عمليات عبور متتالية لحقول متفجرة.
صلابة الوطني النهضويكان ذو صلابة استمدت من رحم النكبة وكرست بالفعل الثوري والعسكري عبر سيناء وفي حرب القنال،واقترنت بفهم العلاقة التكاملية بين الصلابة المطلوبة والمرونة المرغوبة وفق الشخوص والأدوار والزمن والمؤثرات المختلفة، حيث كان لترؤسه رابطة الطلبة الفلسطينيين في جامعة القاهرة أن جمع شتات الفلسطينيين المتوزعين بين التيارات القومية والإسلامية حينها بمرونة التفهم لتعددية الأفكار، ورغبات التعبير عن حب الوطن والسعي لتحريره بالارتباط المباشر بالقومي أو الإسلامي. فكان مايحسب له أنه بلور الوعي الوطني المستقل، وإن كان عمقه عربي إسلامي وبعده عالمي ما شكل بداية في فكر الرجل الوطني النهضوي مع زملائه من مؤسسي الوطنية الفلسطينية وأصحاب تميز الشخصية الفلسطينية أو الهوية التي رغبت زعامات عربية كثيرة في إذابتها وإنهائها سعياً لاستيعاب الوجود الإسرائيلي في المنطقة على حساب الفلسطينيين.
ياسر عرفات ذو القدرات والإمكانيات المتفوقة خاض الحروب على جبهات القتال، كما خاضها على جبهات السلام فكان يحمل البندقية بيد وغصن الزيتون بيد كما قال بنفسه في خطابة الشهير في الأمم المتحدة عام 1974. و ماكان بذلك متناقضاً بقدر ما كان يحاول ان يتفهم المرحلة أو اللحظة ويضع لها مقاييس ورؤى تتفق ومعادلات القوة ومعسكرات الأعداء والأصدقاء ومساحات الحركة المتاحة وموازين القوى في منطقة تفجر عالمية هي فلسطين، وما أطلق عليها لا حقاً الشرق الأوسط.
اوراق وغبارفي سن العقل كان ياسر عرفات يعقد التحالفات ويمد جسور التعاون مع الأصدقاء والأشقاء. يستخدم ما يمتلك من أوراق قابلة للكشف أو المساومة أو الحرق وفقاً لرؤية ما حاد عنها انطلقت من رغبته برؤية دولة فلسطينية مستقلة بالقدس عاصمتها وعودة اللاجئين ، ما رفض ع**ه حينما ضغط عليه أمريكيا وعالمياً عام 2000 في كامب ديفد الثانية فحاصروه إلى حد القتل في المقاطعة في رام الله.
شخصية متميزة، عالمية، مثيرة للجدل، مثيرة للحركة، مثيرة للغبار من حول مجمل تحركاتها، يستخدم بالونات الاختبار في طروحاته السياسية، ويستشف مدى التقبل في عقل زملائه وفي وعي الشعب الذي انتخبه منذ أصبح ناطقا باسم فتح، ثم رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969 ثم رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 بانتخابات حرة وديمقراطية وبرقابة عالمية.
يستخدم نظرته الثاقبة وقدرته السياسية الفذة ،صلابة ومرونة، استراتيجية وتكتيكا بأساليب التمرير للفكرة أو الآراء عبر الآخرين، كما يستخدم الضغط . بنفس الوقت الذي اتخذ في كثير من الأحيان من العاطفة أو العقل أو المال أو التبرير أو التطويع أو التضخيم أو التهوين أو المناخ طرقا تجعل من رؤيته بضرورة الحصول على القرار الذي يراه صحيحا مقدمة لاستخدام أي من الوسائل و الأطر تلك التي أجاد استخدامها متقابلة في حركة فتح وفي منظمة التحرير الفلسطينية، وفي القيادة الفلسطينية وفي المجلس الوطني الفلسطيني ثم لاحقاً في المجلس التشريعي الفلسطيني.
مرجعية القلم الأحمر
لقد شكل ياسر عرفات المرجعية الواحدة، واللاعب الأول، والرمز، والأب الروحي، والضابط للإيقاع الفلسطيني فلم يسمح لخيط من الخيوط أن يفلت من بين يديه، فكان منهم من رأى بذلك ضرورة في ظل ديمقراطية غابة البنادق، ومنهم من رأى مركزية شديدة أو دكتاتورية ضارة أو استبدادا خاصة على الصعيد الداخلي. إن الرئيس ياسرعرفات القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية لم يرضَ أن يترك القلم الأحمر من بين اصبعيه فالقرار يمر عبر اللون، والتوجه والتحكم والضبط لمنظمات متعددة وآراء متباينة في قضية معقدة يجب أن يمر عبر توقيع ممهور على جميع أنواع الورق.
أحبه الكثيرون في العالم، فلقد برز كالطود الشامخ بعد حرب الكرامة وظهر بالعنفوان كطائر الفينيق في حصار بيروت، وكان بطل فلسطين ورمزها في مقاومة الغزو الصهيوني للبنان، واعترف به العالم كرجل سلام حينما تسلم جائزة نوبل بعد أن أقدم على خطوة مثيرة للجدل فلسطينياً ولكنها شجاعة بتوقيعه على اتفاقات اوسلو وذلك في واشنطن عام 1994، لقد كان يغرس بيديه لواء فلسطين على سماء العالم ويصنع الغد القادم، غدا أفضل.
أحبه الفلسطينيون
أحبه الشعب الفلسطيني، حيث قاوم الاحتلال بشخصه اثر احتلال الضفة وغزة عام 1967، وحينما قاوم محاولات شطب الشعب الفلسطيني والكيانية الوطنية، والاستقلالية للقرار الوطني الفلسطيني المستقل في الأعوام 1971و1983، وما بعد الانتفاضة الأولى وثم الثانية. لقد شكل الرجل ضمانة واعية للأهداف الوطنية الفلسطينية وكما ظهر جلياً في مواقع القتال السياسي صلابة دون مرونة، وتمسك دون تهاون، وهيجان للتاريخ مقابل مستقبل أريد له منه أن يكون مدمراً فلم يقبله، فتحدى القوة العظمى الأولى في العالم لصالح شعبه ف**ب شعبه، و**ب نفسه، وخسر الإسرائيليين والأعداء الآخرين.
لقد نظر إليه الشعب الفلسطيني كما نظر الفرنسيون إلى ديغول، والهنود إلى المهاتما غاندي وموطنو جنوب إفريقيا إلى مانديلا قائدا ورمزا حيا وزعيما تاريخيا لا يمكن تعويضه.
عصارة فكره وعمله
أحبار كثيرة سالت تكتب عن ياسر عرفات، وأحبار كثيرة ستسيل كتابة عنه مدحا أو شتماً، انبهارا أو مخالفة، إنصافا أو تجنيا... وفي بعض ذلك قد يكون بعض الحق فالرجل ليس ملاكاً ولا نبيا، وإنما يظل إنسانا يصيب ويخطيء تتجاذبه الأفكار والتيارات والأهواء، ويظل قائداً متميزاً وكاريزمياً يسعى جهد فكره وعمله للتأسي بصلاح الدين فيحرر القدس أو يرسم مسارا -في ظل فهم المتغيرات- تؤسس لذلك بعد الرحيل.
هل تكون قد فهمنا شخصية قيادية فذة ومربكة في آن معاً كشخصية ياسر عرفات، أم يكون للمستقبل أن يتعامل معها باستعادة للماضي فيراها في سياق المستقبل