راشيل كوري (23 عاماً) مناضلة أميركية جاءت من مدينة أوليمبيا في واشنطن ضمن مجموعة التضامن العالمي مع شعب فلسطين لتقف بجانب أناس معذبين لم تكن لها أيّ صلة بهم من قبل. أقامت في غزة لدى عائلة نصر الله التي تبنّتها، لكن راشيل كانت تشعر بالذنب في «أن أكون قبلة أنظار أناس يواجهون الهلاك...»، من دون أن تعرف أنها ستكون ضحية الدفاع عن هذه الأسرة البائسة التي فتحت لها قلبها وذراعيها، يوم جاءت الجرافات الإسرائيلية لتهدم منزلها في 16 آذار 2003. ذلك اليوم تصدّت راشيل للجرافة ووقفت أمامها، ظنّاً منها أن الجندي الإسرائيلي الذي يقود الجرافة سيردعه وقوفها أمامه، لكنه لم يتوقف، بل صدمها ثم داس عليها، لتلقى مصرعها في الحال.
لم تكن راشيل رحّالة أو مسافرة احترفت مشاركة الآخرين في آلامهم كهواية، ولم تكن باحثة عن الإثارة، ولم تكن لديها رغبة في الموت، بل كانت هناك لأنها شعرت أن باستطاعتها التأثير وإحداث تغيير، فشاركت في نشاطات للمساعدة في التخفيف من أوضاع الفلسطينيين المعيشية، كمساعدة المزارعين في حصد الغلال، ومرافقة الأطفال الى المدارس، وإبقاء الطرق مفتوحة أمام سيارات الإسعاف والقيام بأعمال احتجاج سلمية.
كتبت راشيل لوالدتها الكثير من الرسائل الإلكترونية، في واحدة منها تقول «كل ما أردته هو أن أكتب لأمي لأقول لها إني أشهد هذا التطهير العرقي المزمن وخائفة جداً، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة. هذا يجب أن يتوقف. أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف. أشعر بالرعب وعدم التصديق». وتضيف: «أشعر بخيبة الأمل أن يكون هذا هو أساس حقيقة عالمنا وأننا نشارك فيه بالفعل. ليس هذا أبداً ما أتيت من أجله الى هذا العالم. ليس هذا أبداً ما أراده الناس عندما أتوا إلى هذا العالم. هذا ليس العالم الذي أردت أنتِ وأبي أن آتي إليه عندما قررتما أن تنجباني، هذا ليس ما عنيتِه عندما نظرت إلى بحيرة كابيتول وقلت: هذا هو العالم الكبير وأنا آتية إليه».
راشيل الانسانة
حتى لاننساها--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
عندما قتلت راشيل كوري بعد أن داستها جرافة إسرائيلية في قطاع غزة في السادس عشر من آذار عام 2003، نجم على الفور الدافع إلى ضرورة نقل كلماتها إلى العالم. كانت تعمل في رفح مع منظمة للمقاومة السلمية، وهي حركة التضامن العالمية، محاولة أن توقف تدمير بيوتات الفلسطينيين وآبارهم. وقد كان لرسائلها التي كانت تبعث بها على البريد الألكتروني تأثير كبير على عائلتنا، محرضة إيانا على التفكير في الوضع في الشرق الأوسط بطرق لم تكن تخطر لنا من قبل. فبدون صلة مباشرة مع إسرائيل وفلسطين، لم نكن نفهم تلك الطبيعة المدمرة لوضع الفلسطينيين. ولما كنا ننتمي إلى الولايات المتحدة، فقد كان إخلاصنا وتعاطفنا يتجهان دائماً إلى الشعب الإسرائيلي.
بعد موت راشيل، أدركنا أن كلماتها كانت تمارس تأثيراً مشابهاً على آخرين كانت حياتهم تتغير بدورها، تماماً كما كانت حياتنا تتغير. ليس فقط بسبب موت راشيل، ولكن بسبب النافذة التي زودتنا بها كتاباتها على التجربة الفلسطينية وبدعوتها الدائمة إلى فعل شيء.
في وقت أبكر من هذا العام، وعندما بدأ عرض مسرحية في لندن بنيت بالكامل على رسائل راشيل الألكترونية وموادها الصحافية، رأينا بطريقة مباشرة الأثر الذي استطاعت كلمات راشيل أن تمارسه على الآخرين. حيث يمكن للمسرح أن يصل على بشكل مختلف وأكثر عمقاً عما يمكن أن تفعله قراءة مادة إخبارية أو الاستماع إلى خطبة، فثمة عنصر عاطفي يمكن أن يكون عند بعض الناس أكثر ديمومة وحفزاً.
إن المسرح يذهب بالناس إلى الإنسانية، مثلما تفعل كل أنواع الفنون. إنها تأخذنا بعيداً عن مجرد ما هو منطقي وعقلاني. وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فإن ثمة على الدوام حسابات منطقية للموت والحرب، وينبغي على المرء أن يخطو خارجاً من بنية ذلك المنطق كيما ينشئ منطقاً للسلام.
إن مسرحية "اسمي هو راشيل كوري" لا تمثل مجرد وصف للكيفية التي ماتت بها راشيل، حتى لو كان ذلك هو السبب في أنها باتت معروفة وعالقة في الذاكرة. إنها بالإضافة إلى ذلك تضيء إنسانيتها، وتتعقب تطورها منذ رحلة اسكتشافها لذاتها في مراهقتها مروراً ببحثها عن أن يصبح لها صوت سياسي. وتضم المسرحية بعضاً من كتاباتها التي ربما تعتبر بالنسبة لنا ليست بلا طائل، وربما تكون كذلك بالنسبة إليها نفسها. لكنها أفضل بكثير مع ذلك من أن تكون رمزاً ببعد واحد.
إنه لمن غير المسلي، ولو أنه يبعث على بعض السلوى أن تشاهد ممثلة تشبه راشيل إلى حد كبير، ماغان دودز، وهي تلعب دور ابنتنا على خشبة المسرح. وفي المشهد الافتتاحي، عندما تستيقظ راشيل في غرفة نومها المسكونة بالفوضى، يكون الشبه كبيراً جداً. ولكن ميغان تعيش كلمات راشيل بطرق تبدو أحياناً مألوفة، ولكنها تبدو مدهشة في بعض الأحيان أيضاً، وبحيث نتعلم منها الأشياء التي ربما كانت راشيل تفكر فيها. وفي مراحل مختلفة من المسرحية، تتفاعل ميغان بينما تتلقى الرسائل الألكترونية منا نحن، رسائل ألكترونية حقيقية كنا قد أرسلناها فعلاً إلى راشيل. ولم يكن قد سبق لنا أبداً أن تخيلنا ردود فعل ابنتنا لدى تسلمها رسائلنا حتى رأيناها على المسرح.
كانت راشيل إنسانة حقيقية. وأحياناً، عندما ينظر الناس إليها بإجلال، نشعر بأننا ضعيفون إزاءها. فهل كان الناس ليشعروا بالشيء نفسه لو عرفوا الإنسانة كاملة؟ "رغم أن اسمي هو راشيل كوري، فإن بوسع الناس أن يعرفوا راشيل أكثر اكتمالاً".
من الواضح أن ابنتنا قد باتت رمزاً إيجابياً في أعين الناس. وتبدو كلماتها وقصتها وهي تحفز الآخرين على فعل شيء، شيء غير مجرد الجلوس والتحدث عن أوضاع الكون في غرف جلوسهم والإحساس بالتعاسة.
وفي نهاية الأسبوع التي تلت موت راشيل، تناقشنا مع أصدقائنا عما ينبغي لنا فعله. لقد كنا في حاجة إلى العثور على ردة فعل. وبطريقة ما، ربما كنا أوفر حظاً من آباء آخرين ممن فقدوا أبناء، لأن ردة الفعل في وضعنا كانت ظاهرة. فبجودها لتعليم الفلسطينيين وإقامة صلات معهم في رفح، مهدت لنا راشيل الطريق.
في رسالة ألكترونية من راشيل إلى صديقها تود، تقول له أكثر من عشر مرات إن عليه القدوم إلى غزة: "تعال إلى هنا"، تكررها المرة تلو المرة. ذلك ما أرادت لنا راشيل أن نفعله أيضاً، أن نحاول المضي لإكمال ما كانت بدأته.
كنا مؤخراً قد قضينا بعض الوقت في الولايات المتحدة مع بعض أفراد العائلة الذين كانوا خلف جدار البيت الذي وقفت راشيل لحمايته. وطوال شهر كامل لعبنا وأكلنا وسافرنا مع "سما" ذات الخمسة عشر ربيعاً. فأي مستقبل لديها، بينما تعيش فيما يتحول الآن إلى سجن كبير في غزة؟
ربما يجلب فك الارتباط الأخير بعض الراحة للغزيين على المستوى الظاهر. ولكن من الصعب عدم مقارنة تغطية الإعلام التي تم توفيرها للمستوطنين الإسرائيليين وهم يغادرون، مع تلك التي أعطيت للكثير من العائلات الفلسطينية ممن غادروا بيوتهم للتدمير في غزة. إن الذي كان يحدث في الضفة الغربية تحت غطاء فك الارتباط، من بناء الجدار وتوسيع المستوطنات، هو أمر مقلق للغاية أيضاً.
وعندما قال مساعد رئيس الوزراء دوف ويسغلاس إن القصد الحقيقي من فك الارتباط في غزة كان وضع العملية السلمية في غرفة الإنعاش، وينبغي أن نحمله مسؤولية كلامه. يجب أن نبقى مصرين على إجراء عملية سلمية وعلى العمل باتجاه إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، والتي يمكن أن تفيد الفلسطينيين والإسرائيليين وبقية العالم.
وفي الأثناء، لا نزال نسأل حكومتنا عن إجراء تحقيق تقوده الولايات المتحدة حول مقتل راشيل. وتقول وزارة الخارجية الأميركية في السجلات إن تقرير الشرطة العسكرية الإسرائيلية لا يعكس إجراء تحقيق "شامل، موثوق وشفاف"، رغم أن أرئيل شارون كان قد وعد الرئيس بوش بذلك. وفي شهر آذار، رفعنا قضية ضد جيش الدفاع الإسرائيلي وحكومة إسرائيل للمطالبة بالعدالة لراشيل وللحصول على المعلومات أيضاً. ولا نزال راغبين في معرفة ما حدث في السادس عشر من أيلول عام 2003، ولماذا تختلف تقارير شهود العيان الدولية بشكل كبير عن إفادات الجنود المتورطين.
لسوء الحظ، أقر البرلمان الإسرائيلي، خلافاً للقانون الدولي تشريعاً ذا أثر رجعي يجعل من الممكن بالنسبة لمعظم الفلسطينيين والآخرين أن يسجلوا دعاوى ضد قوات الدفاع الإسرائيلية بسبب الإصابات التي حدثت في المناطق المحتلة بعد أيلول 2000.
وهنا في الولايات المتحدة، اتخذنا إجراءات قانونية ضد شركة كاتربلر، والتي صنعت الجرافة من طراز D-9R التي قتلت راشيل. ووفق القانون الأميركي الحالي، يمكن للمؤسسات، بل إنها اعتبرت مسؤولة عندما تستمر على علم منها بتقديم سلع وخدمات تستخدم في انتهاكات حقوق الإنسان.
في الشهر الذي سبق مقتلها. كتبت راشيل ما يلي في رسالة إلكترونية أرسلتها إلينا: "إنني أتطلع إلى رؤية أشخاص أكثر وأكثر راغبين في مقاومة الاتجاه الذي يذهب العالم فيه، اتجاه حيث خبراتنا الشخصية ليست ذات صلة، نكون فيه عاجزين، وتكون مجتمعاتنا فيه غير مهمة، ونكون فيه بلا حول، ويتقرر في مستقبلنا، وحيث أعلى مستويات الإنسانية يعبر عن نفسه من خلال اختيار ما سنشتريه من السوق". وهكذا، فإن الدعوة إلى العمل قد تدفقت من كلماتها.